كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمِثْلُ هَذَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنِي رِشْدِينُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَنْعُمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ دَخَلَ النَّارَ يَشْتَدُّ صِيَاحُهُمَا؟ فَقَالَ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ: أَخْرِجُوهُمَا فَإِذَا أُخْرِجَا فَقَالَ لَهُمَا: لِأَيِّ شَيْءٍ اشْتَدَّ صِيَاحُكُمَا قَالَا: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتَرْحَمَنَا. قَالَ: رَحْمَتِي لَكُمَا أَنْ تَنْطَلِقَا فَتُلْقِيَا أَنْفُسَكُمَا حَيْثُ كُنْتُمَا مِنَ النَّارِ، قَالَ فَيَنْطَلِقَانِ فَيُلْقِي أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ فَيَجْعَلُهَا اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَيَقُومُ الْآخَرُ فَلَا يُلْقِي نَفْسَهُ فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: مَا مَنْعَكَ أَنْ تُلْقِيَ نَفْسَكَ كَمَا أَلْقَى صَاحِبُكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ إِنِّي أَرْجُوكَ أَلَّا تُعِيدَنِي فِيهَا بَعْدَ مَا أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا. فَيَقُولُ الرَّبُّ تَعَالَى: لَكَ رَجَاؤُكَ. فَيَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ جَمِيعًا بِرَحْمَةِ اللهِ.
وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ بِلَالِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: يُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِ رَجُلَيْنِ مِنَ النَّارِ فَإِذَا أُخْرِجَا وَوَقَفَا قَالَ اللهُ لَهُمَا: كَيْفَ وَجَدْتُمَا مَقِيلَكُمَا وَسُوءَ مَصِيرِكُمَا؟ فَيَقُولَانِ شَرَّ مَقِيلٍ وَأَسْوَأَ مَصِيرٍ صَارَ إِلَيْهِ الْعِبَادُ، فَيَقُولُ لَهُمَا: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيَكُمَا وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. قَالَ فَيُؤْمَرُ بِصَرْفِهِمَا إِلَى النَّارِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَيَغْدُو فِي أَغْلَالِهِ وَسَلَاسِلِهِ حَتَّى يَقْتَحِمَهَا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيَتَلَكَّأُ فَيُؤْمَرُ بِرَدِّهِمَا فَيَقُولُ لِلَّذِي غَدَا فِي أَغْلَالِهِ وَسَلَاسِلِهِ حَتَّى اقْتَحَمَهَا مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ وَقَدْ أُخْرِجْتَ مِنْهَا؟ فَيَقُولُ: إِنِّي خُبِّرْتُ مِنْ وَبَالِ مَعْصِيَتِكَ مَا لَمْ أَكُنْ أَتَعْرَضُ لِسُخْطِكَ ثَانِيًا، وَيَقُولُ لِلَّذِي تَلَكَّأَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَيَقُولُ: حُسْنُ ظَنِّي بِكَ حِينَ أَخْرَجَتْنِي مِنْهَا أَلَّا تَرُدَّنِي إِلَيْهَا فَيَرْحَمُهُمَا جَمِيعًا وَيَأْمُرُ بِهِمَا إِلَى الْجَنَّةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ- أَنَّ النَّعِيمَ وَالثَّوَابَ مِنْ مُقْتَضَى رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَبِرِّهِ وَكَرَمِهِ؛ وَلِذَلِكَ يُضِيفُ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْعَذَابُ وَالْعُقُوبَةُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يُسَمَّى بِالْمُعَاقِبِ وَالْمُعَذِّبِ، بَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فَيُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِهِ وَهَذَا مِنْ مَفْعُولَاتِهِ حَتَّى فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [15: 49، 50] وَقَالَ تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [5: 98] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [7: 167] وَمِثْلُهَا فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ.
فَمًا كَانَ مِنْ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَإِنَّهُ يَدُومُ بِدَوَامِهَا وَلاسيما إِذَا كَانَ مَحْبُوبًا لَهُ، وَهُوَ غَايَةٌ مَطْلُوبَةٌ فِي نَفْسِهَا.
وَأَمَّا الشَّرُّ الَّذِي هُوَ الْعَذَابُ فَلَا يَدْخُلُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَإِنْ دَخَلَ فِي مَفْعُولَاتِهِ لِحِكْمَةٍ إِذَا حَصَلَتْ زَالَ وَفَنِي، بِخِلَافِ الْخَيْرِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَائِمُ الْمَعْرُوفِ لَا يَنْقَطِعُ مَعْرُوفُهُ أَبَدًا وَهُوَ قَدِيمُ الْإِحْسَانِ أَبَدِيُّ الْإِحْسَانِ، فَلَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مُحْسِنًا عَلَى الدَّوَامِ وَلَيْسَ مِنْ مُوجِبِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ مُعَاقِبًا عَلَى الدَّوَامِ، غَضْبَانَ عَلَى الدَّوَامِ، مُنْتَقِمًا عَلَى الدَّوَامِ، فَتَأَمَّلْ هَذَا الْوَجْهَ تَأَمُّلَ فَقِيهٍ فِي بَابِ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ يَفْتَحُ لَكَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ- وَهُوَ قَوْلُ أَعْلَمُ خَلِقِهِ بِهِ وَأَعْرَفُهُمْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ: «وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» وَلَمْ يَقِفْ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مَنْ قَالَ الشَّرُّ لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْكَ. بَلِ الشَّرُّ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِوَجْهٍ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَلَا فِي أَسْمَائِهِ، فَإِنَّ ذَاتَهُ لَهَا الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَصِفَاتِهِ كُلَّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ يُحْمَدُ عَلَيْهَا وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِهَا، وَأَفْعَالَهُ كُلَّهَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ وَعَدْلٌ وَحِكْمَةٌ لَا شَرَّ فِيهَا بِوَجْهٍ مَا، وَأَسْمَاءَهُ كُلَّهَا حُسْنَى، فَكَيْفَ يُضَافُ الشَّرُّ إِلَيْهِ؟ بَلِ الشَّرُّ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ وَهُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، إِذْ فِعْلُهُ غَيْرُ مَفْعُولِهِ، فَفِعْلُهُ خَيْرٌ كُلُّهُ، وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ الْمَفْعُولُ فَفِيهِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَإِذَا كَانَ الشَّرُّ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا غَيْرَ قَائِمٍ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ أَنْتَ لَا تَخْلُقُ الشَّرَّ حَتَّى يُطْلَبَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ، وَإِنَّمَا نَفَى إِضَافَتَهُ إِلَيْهِ وَصْفًا وَفِعْلًا وَاسْمًا، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَّا الذُّنُوبَ وَمُوجَبَاتِهَا، وَأَمَّا الْخَيْرُ فَهُوَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَاتُ وَمُوجَبَاتُهَا وَالْإِيمَانُ وَالطَّاعَاتُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ سُبْحَانَهُ؛ وَلِأَجْلِهَا خَلَقَ خَلْقَهُ وَأَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، وَهِيَ ثَنَاءٌ عَلَى الرَّبِّ وَإِجْلَالُهُ وَتَعْظِيمُهُ وَعُبُودِيَّتُهُ، وَهَذِهِ لَهَا آثَارٌ تَطْلُبُهَا وَتَقْتَضِيهَا فَتَدُومُ آثَارُهَا بِدَوَامِ مُتَعَلِّقِهَا. وَأَمَّا الشُّرُورُ فَلَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا وَلَا هِيَ الْغَايَةَ الَّتِي خُلِقَ لَهَا الْخَلْقُ، فَهِيَ مَفْعُولَاتٌ قُدِّرَتْ لِأَمْرٍ مَحْبُوبٍ وَجُعِلَتْ وَسِيلَةً إِلَيْهِ، فَإِذَا حَصَلَ مَا قُدِّرَتْ لَهُ اضْمَحَلَّتْ وَتَلَاشَتْ وَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى الْخَيْرِ الْمَحْضِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ- أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ رَحْمَتَهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا وَفِيهِ رَحْمَتُهُ، وَلَا يُنَافِي هَذَا أَنْ يَرْحَمَ الْعَبْدَ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيُؤْلِمُهُ وَتَشْتَدُّ كَرَاهَتُهُ لَهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ آنِفًا وَقَوْلَهُ تَعَالَى لِذَيْنَكِ الرَّجُلَيْنِ، رَحْمَتِي لَكُمَا أَنْ تَنْطَلِقَا فَتُلْقِيَا أَنْفُسَكُمَا حَيْثُ كُنْتُمَا مِنَ النَّارِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا دَعَا لِمُبْتَلًى قَدِ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَقَالَ: اللهُمَّ ارْحَمْهُ.
يَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «كَيْفَ أَرْحَمُهُ مِنْ شَيْءٍ بِهِ أَرْحَمُهُ» فَالِابْتِلَاءُ رَحْمَةٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ (وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ) يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: «أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي، وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي، وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُقَنِّطُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي، إِنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ، أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ، لِأُطَهِّرَهُمْ مِنَ الْمَعَايِبِ» فَالْبَلَاءُ وَالْعُقُوبَةُ أَدْوِيَةٌ قُدِّرَتْ لِإِزَالَةِ أَدْوَاءٍ لَا تَزُولُ إِلَّا بِهَا وَالنَّارُ هِيَ الدَّوَاءُ الْأَكْبَرُ، فَمَنْ تُدَاوَى فِي الدُّنْيَا أَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنِ الدَّوَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِلَّا فَلابد لَهُ مِنَ الدَّوَاءِ بِحَسَبِ دَائِهِ. وَمَنْ عَرَفَ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِصِفَاتِ جَلَالِهِ وَنُعُوتِ كَمَالِهِ مِنْ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَغِنَاهُ وَجُودِهِ، وَتَحَبُّبِهِ إِلَى عِبَادِهِ وَإِرَادَتِهِ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ وَسَبْقِ رَحْمَتِهِ لَهُمْ، لَمْ يُبَادِرْ إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يُبَادِرْ إِلَى قَبُولِهِ.
يُوَضِّحُهُ (الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ) أَنَّ أَفْعَالَهُ سُبْحَانَهُ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْعَدْلِ، فَلَا يَفْعَلُ عَبَثًا وَلَا جَوْرًا وَلَا بَاطِلًا، بَلْ هُوَ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يُنَزَّهُ عَنْ سَائِرِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ.
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَتَعْذِيبُهُمْ إِنْ كَانَ رَحْمَةً بِهِمْ حَتَّى يَزُولَ ذَلِكَ الْخُبْثُ وَتَكْمُلَ الطَّهَارَةُ فَظَاهِرٌ. وَإِنْ كَانَ لِحِكْمَةٍ فَإِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ زَالَ الْعَذَابُ. وَلَيْسَ فِي الْحِكْمَةِ دَوَامُ الْعَذَابِ أَبَدَ الْآبَادِ بِحَيْثُ يَكُونُ دَائِمًا بِدَوَامِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ فَإِنْ كَانَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فَلَيْسَتْ مَصْلَحَتُهُمْ فِي بَقَائِهِمْ فِي الْعَذَابِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ تَعُودُ إِلَى أَوْلِيَائِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ فِي نَعِيمِهِمْ فَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَأْبِيدَ الْعَذَابِ، وَلَيْسَ نَعِيمُ أَوْلِيَائِهِ وَكَمَالُهُ مَوْقُوفًا عَلَى بَقَاءِ آبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ فِي الْعَذَابِ السَّرْمَدِ. فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ هُوَ مُوجَبُ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ قُلْتُمْ مَا لَا يُعْقَلُ، وَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَلَا تُطْلَبُ لَهُ حِكْمَةٌ وَلَا غَايَةٌ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَعْلَمِ الْعَالَمِينَ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُ مُعَطَّلَةً عَنِ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَأَدِلَّةُ الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ وَالْآيَاتِ الْمَشْهُودَةِ شَاهِدَةٌ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ إِبْقَاؤُهُمْ فِي الْعَذَابِ وَانْقِطَاعُهُ عَنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَشِيئَتِهِ سَوَاءً، وَلَمْ يَكُنْ فِي انْقِضَائِهِ مَا يُنَافِي كَمَالَهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُخْبِرْنَا بِأَبَدِيَّةِ الْعَذَابِ وَأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَائِزَاتِ الْمُمْكِنَاتِ الْمَوْقُوفِ حُكْمُهَا عَلَى خَبَرِ الصَّادِقِ، فَإِنْ سَلَكْتَ طَرِيقَ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ لَمْ يَقْتَضِ الدَّوَامَ، وَإِنْ سَلَكْتَ طَرِيقَ الْمَشِيئَةِ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا تُعَلَّلُ لَمْ تَقْتَضِهِ أَيْضًا، وَإِنْ وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى مُجَرَّدِ السَّمْعِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِيهِ.
الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ- أَنَّ رَحْمَتَهُ سُبْحَانَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ فِي الْمُعَذَّبِينَ، فَإِنَّهُ أَنْشَأَهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَرَبَّاهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَرَزَقَهُمْ وَعَافَاهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ بِرَحْمَتِهِ.
وَأَسْبَابُ النِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ طَارِئَةٌ عَلَيْهَا فَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ فِيهِمْ، وَخَلَقَهُمْ عَلَى خِلْقَةٍ تَكُونُ رَحْمَتُهُ إِلَيْهِمْ أَقْرَبَ مِنْ غَضَبِهِ وَعُقُوبَتِهِ؛ وَلِهَذَا تَرَى أَطْفَالَ الْكُفَّارِ قَدْ أَلْقَى عَلَيْهِمْ رَحْمَتَهُ فَمَنْ رَآهُمْ رَحِمَهُمْ، وَلِهَذَا نَهَى عَنْ قَتْلِهِمْ فَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ فِيهِمْ فَكَانَتْ هِيَ السَّابِقَةَ إِلَيْهِمْ، فَفِي كُلِّ حَالٍ هُمْ فِي رَحْمَتِهِ فِي حَالِ مُعَافَاتِهِمْ وَابْتِلَائِهِمْ. وَإِذَا كَانَتِ الرَّحْمَةُ هِيَ السَّابِقَةَ فِيهِمْ لَمْ يَبْطُلْ أَثَرُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ عَارَضَهَا أَثَرُ الْغَضَبُ وَالسُّخْطِ فَذَلِكَ لِسَبَبٍ مِنْهُمْ، وَأَمَّا أَثَرُ الرَّحْمَةِ فَسَبَبُهُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَمَا مِنْهُ يَقْتَضِي رَحْمَتَهُمْ، وَمَا مِنْهُمْ يَقْتَضِي عُقُوبَتَهُمْ، وَالَّذِي مِنْهُ سَابِقٌ وَغَالِبٌ. وَإِذَا كَانَتْ رَحْمَتُهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ فَلِأَنْ يَغْلِبَ أَثَرُ الرَّحْمَةِ أَثَرَ الْغَضَبِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ- أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُخْبِرُ عَنِ الْعَذَابِ أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ، وَعَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وَعَذَابُ يَوْمٍ أَلِيمٍ، وَلَا يُخْبِرُ عَنِ النَّعِيمِ أَنَّهُ نَعِيمُ يَوْمٍ وَلَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ تَقْدِيرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَالْمُعَذَّبُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي مُدَّةِ لَبْثِهِمْ فِي الْعَذَابِ بِحَسَبِ جَرَائِمِهِمْ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْعَذَابَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهِ الدُّنْيَا وَلَمْ يُرَدْ بِهِ اللهُ فَالْعَذَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِلْآخِرَةِ وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهَ اللهِ فَلَا عَذَابَ عَلَيْهِ، وَالدُّنْيَا قَدْ جُعِلَ لَهَا أَجَلٌ تَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَمَا انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى تِلْكَ الدَّارِ مِمَّا لَيْسَ لِلَّهِ فَهُوَ الْمُعَذَّبُ بِهِ.
وَأَمَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ مَا لَا يَفْنَى وَلَا يَزُولُ فَيَدُومُ بِدَوَامِ الْمُرَادِ بِهِ، فَإِنَّ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ إِذَا كَانَتْ دَائِمَةً لَا تَزُولُ لَمْ يَزُلْ مَا تَعَلَّقَ بِهَا، بِخِلَافِ الْغَايَةِ الْمُضْمَحِلَّةِ الْفَانِيَةِ فَمَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ اللهِ يَضْمَحِلُّ وَيَزُولُ بِزَوَالِ مُرَادِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْمَطْلُوبِ الْمُرَادِ، فَإِذَا اضْمَحَلَّتِ الدُّنْيَا وَانْقَطَعَتْ أَسْبَابُهَا وَانْتَقَلَ مَا كَانَ فِيهَا لِغَيْرِ اللهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالذَّوَاتِ وَانْقَلَبَ عَذَابًا وَآلَامًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ يَدُومُ بِدَوَامِهِ بِخِلَافِ النَّعِيمِ. الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ- أَنَّهُ لَيْسَ فِي حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا يُعَذِّبُهُمْ أَبَدَ الْآبَادِ عَذَابًا سَرْمَدًا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَا انْقِطَاعَ أَبَدًا، وَقَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ وَالْفِطْرِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكِيمٌ وَأَنَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، فَإِذَا عَذَّبَ خَلْقَهُ عَذَّبَهُمْ بِحِكْمَةٍ كَمَا يُوجَدُ التَّعْذِيبُ وَالْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ فَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَتَطْهِيرِ الْعَبْدِ وَمُدَاوَاتِهِ وَإِخْرَاجِ الْمَوَادِّ الرَّدِيَّةِ عَنْهُ بِتِلْكَ الْآلَامِ مَا تَشْهَدُهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَصَلَاحِهَا وَزَجْرِهَا وَرَدْعِ نَظَائِرِهَا وَتَوْقِيفِهَا عَلَى فَقْرِهَا وَضَرُورَتِهَا إِلَى رَبِّهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْحَمِيدَةِ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا طِيِّبٌ؛ وَلِهَذَا يُحَاسَبُونَ- إِذَا قَطَعُوا الصِّرَاطَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ- فَيَقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّفُوسَ الشِّرِّيرَةَ الْخَبِيثَةَ الْمُظْلِمَةَ الَّتِي لَوْ رُدَّتْ إِلَى الدُّنْيَا قَبْلَ الْعَذَابِ لَعَادَتْ لِمَا نُهِيَتْ عَنْهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَسْكُنَ دَارَ السَّلَامِ فِي جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا عُذِّبُوا بِالنَّارِ عَذَابًا يُخَلِّصُ نُفُوسَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْخُبْثِ وَالْوَسَخِ وَالدَّرَنِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَرَحْمَتِهِ، وَلَا يُنَافِي الْحِكْمَةَ خَلْقُ نُفُوسٍ فِيهَا شَرٌّ يَزُولُ بِالْبَلَاءِ الطَّوِيلِ وَالنَّارِ كَمَا يَزُولُ بِهَا خَبَثُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ فَهَذَا مَعْقُولٌ فِي الْحِكْمَةِ وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْعَالَمِ الْمَخْلُوقِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، أَمَّا خَلْقُ نُفُوسٍ لَا يَزُولُ شَرُّهًا أَبَدًا وَعَذَابُهَا لَا انْتِهَاءَ لَهُ، فَلَا يَظْهَرُ فِي الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَفِي وُجُوبِ مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، أَعْنِي ذَوَاتًا هِيَ شَرٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ خَيْرٍ أَصْلًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ فَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى قَلْبِ الْأَعْيَانِ وَإِحَالَتِهَا وَإِحَالَةِ صِفَاتِهَا، فَإِذَا وُجِدَتِ الْحِكْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ خَلْقِ هَذِهِ النُّفُوسِ وَالْحِكْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ تَعْذِيبِهَا فَاللهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ أَنْ يُنْشِئَهَا نَشْأَةً أُخْرَى غَيْرَ تِلْكَ النَّشْأَةِ، وَيَرْحَمَهَا فِي النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الرَّحْمَةِ.
يُوَضِّحُهُ (الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ) وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يُنْشِئُ لِلْجَنَّةِ خَلْقًا آخَرَ يُسْكِنُهُمْ إِيَّاهَا وَلَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا تَكُونُ الْجَنَّةُ جَزَاءً لَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَخَذَ الْعَذَابُ مِنْ هَذِهِ النُّفُوسِ مَأْخَذَهُ وَبَلَغَتِ الْعُقُوبَةُ مَبْلَغَهَا، فَانْكَسَرَتْ تِلْكَ النُّفُوسُ وَخَضَعَتْ وَذَلَّتْ وَاعْتَرَفَتْ لِرَبِّهَا وَفَاطِرِهَا بِالْحَمْدِ، وَأَنَّهُ عَدْلٌ فِيهَا كُلَّ الْعَدْلِ، وَأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ كَانَتْ فِي تَخْفِيفٍ مِنْهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ عَذَابُهُمْ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ لَفَعَلَ وَشَاءَ كَتَبَ الْعُقُوبَةَ طَلَبًا لِمُوَافَقَةِ رِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ وَعَلِمَ أَنَّ الْعَذَابَ أَوْلَى بِهَا وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهَا سِوَاهُ وَلَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ فَذَابَتْ مِنْهَا تِلْكَ الْخَبَائِثُ كُلُّهَا وَتَلَاشَتْ وَتَبَدَّلَتْ بِذُلٍّ وَانْكِسَارٍ وَحَمْدٍ وَثَنَاءٍ عَلَى الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمْ يَكُنْ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يَسْتَمِرَّ بِهَا فِي الْعَذَابِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ إِذْ قَدْ تَبَدَّلَ شَرُّهَا بِخَيْرِهَا وَشِرْكُهَا بِتَوْحِيدِهَا وَكِبْرُهَا بِخُضُوعِهَا وَذُلِّهَا، وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [28] فَإِنَّ هَذَا قَبْلَ مُبَاشَرَةِ الْعَذَابِ الَّذِي يُزِيلُ تِلْكَ الْخَبَائِثَ، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فَهَذَا إِنَّمَا قَالُوهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَخْرِجَ الْعَذَابُ مِنْهُمْ تِلْكَ الْخَبَائِثَ. فَأَمَّا إِذَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ أَحْقَابًا- وَالْحُقْبُ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْحُقْبُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ»- فَإِنَّهُ مِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الْكِبْرُ وَالشِّرْكُ وَالْخُبْثُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَدِ الْمُتَطَاوِلَةِ فِي الْعَذَابِ.
الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ- أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهَرُ الْحَيَاةِ فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحَبَّةُ مِنْ حَمِيلِ السَّيْلِ فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ» فَهَؤُلَاءِ أَحْرَقَتْهُمُ النَّارُ جَمِيعَهُمْ فَلَمْ يَبْقَ فِي بَدَنِ أَحَدِهِمْ مَوْضِعٌ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ بِحَيْثُ صَارُوا حُمَمًا- وَهُوَ الْفَحْمُ الْمُحْتَرِقُ بِالنَّارِ-. وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ هَكَذَا: «فَيَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ اللهُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ» فَهَذَا السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَمَعَ هَذَا فَأَخْرَجَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَمِنْ هَذَا رَحِمْتُهُ سُبْحَانَهُ لِلَّذِي أَوْصَى أَهْلَهُ أَنْ يُحَرِّقُوهُ بِالنَّارِ وَيَذْرُوهُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ زَعْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُ يَفُوتُ اللهَ سُبْحَانَهُ. فَهَذَا قَدْ شَكَّ فِي الْمَعَادِ وَالْقُدْرَةِ وَلَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، وَمَعَ هَذَا فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: خَشْيَتُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَمَا تَلَافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ اللهُ فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي خَلْقِهِ حِكَمٌ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الْبَشَرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ ذَكَرَنِي يَوْمًا أَوْ خَافَنِي فِي مَقَامٍ» قَالُوا: وَمَنْ ذَا الَّذِي فِي مُدَّةِ عُمْرِهِ كُلِّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا لَمْ يَذْكُرْ رَبَّهُ يَوْمًا وَاحِدًا وَلَا خَافَهُ سَاعَةً وَاحِدَةً؟ وَلَا رَيْبَ أَنَّ رَحْمَتَهُ سُبْحَانَهُ إِذَا أَخْرَجَتْ مِنَ النَّارِ مَنْ ذَكَرَهُ وَقْتًا مَا أَوْ خَافَهُ فِي مَقَامٍ مَا فَغَيْرُ بِدَعٍ أَنْ تَفْنَى النَّارُ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ خَرَجُوا مِنْهَا وَهِيَ نَارٌ.